24 - 12 - 2024

صباحيات| ليست ازدواجية للمعايير، بل تعددية أو غياب أحيانا

صباحيات| ليست ازدواجية للمعايير، بل تعددية أو غياب أحيانا

من الاتهامات الرائجة في الخطاب العربي في التعامل مع المجتمع الدولي تهمة "ازدواجية المعايير"، أو "الكيل بمكيالين"، وهناك سلوك شائع ومذموم أيضاً في تعاملنا مع ما تصدره محكمة العدل الدولية من أحكام ومع القرارات والتقارير الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة بشأن تحقيقات تجريها الوكالة الدولية في حوادث المنطقة، التركيز على جانب من الحكم وتجاهل جوانب آخر لا يروق لنا. واللافت أننا نكيل هذه الاتهامات للولايات المتحدة والمجتمع الغربي كما لو كنا لا نتعامل مع العالم ومع قضايانا المختلفة، بل في تعاملاتنا اليومية بمعايير مزدوجة، بل ربما نعتمد أكثر من معيار لكثير من المواقف، وفي كثير من الأحيان لا نتعامل وفق أي معايير أصلاً. فما هي مسألة المعايير وما معنى ازدواجية المعايير أو تعددية المعايير أو غياب المعايير. 

أقترح كنقطة انطلاق لمناقشة "المعايير" فهم العلاقة بين القانون والسياسة، إذ أن "المعايير" standards أو norms، وهي المقاييس أو القواعد المُنظِمة للقيام بالأشياء، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة القانون التي تتمحور حول السلوك الواجب المتوقع من الأفراد في مجتمع من المجتمعات. القانون معني بما ينبغي أن يكون، في حين أن السياسة قضيتها الأساسية تتعلق بما قائم بالفعل وما يفرضه الوضع القائم من قيود وما يتيحه من إمكانيات وفرص ويتحدد الفعل السياسي في تلك المساحة بين ما ينبغي أن يكون وما هو قائم بالفعل وما هي الإمكانية المتاحة للتحرك بين القيود والفرص، لذا تعرف السياسة بأنه "فن الممكن" أو أنها الآلية الأساسية للحركة في ظل وضع قائم لتحقيق أهداف تخدم مصالح محدد للقوى الفاعلة في عالم السياسة، وهي بهذا المعنى فن لإدارة الصراعات الناشئة عن تناقض المصالح وتعارض الأهداف والغايات. هناك نقطة أخرى قد تصلح كنقطة انطلاق لمناقشة الموضوع تتعلق بالتناقض أو التعارض الذي قد ينشأ غالبا بين المبادئ والمصالح، وأيهما يجري تغليبه عند اتخاذ قرار أو في سلوكه، ونقطة ثالثة تتعلق بين القواعد النظرية المجرد وبين تطبيقها أو الممارسة العملية، أو ما يعرف بالفجوة بين النظرية والتطبيق أو الممارسة، والتي تأسس عليها القول الشهير بأن المشكلة أو العيب ليست في النظرية وإنما في التطبيق، النظرية سليمة لكن التطبيق خاطئ وهو من الأقوال التي يتعين الوقوف عندها وتفنيدها ذلك أنه لا قيمة لأي نظرية لا يجري اختبارها في الواقع، وأنه يجري تعديل النظرية أو التراجع عن بعض افتراضاتها أو التراجع عنها كلية إذا تبين عدم قابليتها للتطبيق أو فشلها، فالعبرة دائما بالتطبيق. لكن من المهم في كل هذه الحالات التمييز بين ازدواجية المعايير وبين عدم الالتزام بالاتفاقيات والالتفاف عليها أو الوفاء بالوعود والتمييز بينها وبين الانتقائية، رغم ما يوجد من تداخل في بعض الحالات، والأهم ضرورة التمييز بين تطبيق المعايير المزدوجة وبين التطبيق الصحيح لمعايير مختلفة تجاه ظروف "تبدو" وكأنها هي نفسها، الأمر الذي يستدعي منا التريث وفحص الموقف قبل اتهام هذا الطرف أو ذلك بازدواجية المعايير، والتي تنطوي على اتهامات بالنفاق والتحيز والظلم، ومن المهم أيضا مراقبة سلوكنا وهل ينطوي على ازدواجية للمعايير أم لا. حينما قامت روسيا بغزو أوكرانيا، تحدث الدكتور عبد العليم محمد في ندوة في حزب التجمع عن تداعيات الحرب، وحذر جمهور مستمعيه في عدم الحماس في تأييد الغزو الروسي لدولة مستقلة لأننا بذلك نضع قاعدة تجيز لإسرائيل التمادي في ممارساتها العدوانية تجاه الفلسطينيين وتجاه الدول العربية وإيران، لكن لم يستجب لهذا التحذير سوى عدد قليل من المعلقين. العالم لا يسير وفق المبادئ العليا أو القيم المجردة وإنما تحركه وتتحكم فيه المصالح  والأهواء، والتي تدفع كثيرا من القوى سواء في سلوكها الدولي، حيث تغيب السلطة المنفذة للقانون أو القواعد الدولية على المخالفين، والتي توصف عادة بالفوضى ويحكمها ميزان القوى وميزان المصالح، أو في سلوكها الداخلي إذ يوجد قانون يسري على الجميع ويجب على الجميع احترامه والتقيد بأحكامه، لكننا كثيرا ما نرى صورا مختلفة لانتهاك القانون وعدم احترامه والتقيد بعه، وهذا يعصف بمبادئ العدالة والمصداقية على المستوى الداخلي، ويغلب منطق اللجوء إلى القوى المسلحة والعنف على المستوى الدولي.  لا خلاف على أن ازدواجية المعايير، أو تطبيق معايير مختلفة على مواقف متشابهة، ظاهرة متجذرة في العلاقات الدولية وفي السياسات الداخلية للدول، ولا خلاف أيضا حول الآثار السلبية المترتبة عليها. وينشأ المعيار المزدوج عند التعامل مع شخصين أو مجموعتين أو منظمتين أو ظرفين أو حدثين بشكل مختلف على الرغم من أنه ينبغي التعامل معهما بالطريقة نفسها، ويعني أن شيئين متماثلين يتم قياسهما بمعايير مختلفة. فالمعايير السارية والتي يجري تقنينها تختلف من مجتمع لآخر باختلاف منظومته القيمية، فلا يوجد معايير واحدة سارية في كل المجتمعات، لكن فكرة القانون فكرة مستقرة في جميع الدول والمجتمعات لتنظيم شؤونها الداخلية للحيلولة دون تطاحن أفراد المجتمع وجماعاته وهي الحالة التي وصفها المفكر الإنجليزي توماس هوبز في كتاب اللفياثان، عن الدولة بحالة "حرب الجميع ضد الجميع"، والتي تتطلب من الجميع التنازل عن قدر من حرياتهم لصالح الدولة التي وصفها بالوحش من أجل انتظام العلاقات والعيش بسلام.

وعلى الرغم من انشغال الفلاسفة منذ عهد بعيد بفكرة السلام بين الشعوب والأمم، إلا أن النظام الدولي لم يعرف سوى مستويات محدودة من فرض القيود على سلوك الدولة وسيادة الدولة اقتضته الضرورة من خلال اتفاقيات ومعاهدات ملزمة، لكن يحق للدولة أن تنسحب منها وتتحمل عواقب الانسحاب، أو يحدث ألا تطبق هذه القواعد على جميع الحالات استناداً إلى قوة هذه الدولة أو تلك أو اعتمادها على تحالف دولي يوفر لها قدراً من الحماية، ومن هناك تنشأ فكرة "ازدواجية المعايير" في العلاقات الدولية. والحقيقة أن ازدواج المعايير هذا يشمل جميع الدول تقريباً. من أمثلة ذلك، إقدام نظام الرئيس العراقي البعثي صدام حسين على احتلال الكويت في عام 1991، وهي الخطوة التي أحدثت انقساماً في العالم العربي وألحقت ضررا بالغاً بالقضية الفلسطينية، على الأقل أن الغزو كان سببا مباشر لانصراف أنظار العالم عن الانتفاضة الفلسطينية، انتفاضة أطفال الحجارة، التي فضحت ممارسات الاحتلال الإسرائيلي.

وحفل الغزو وما ترتب عليه من ردود فعل عربية ودولية بمواقف تعكس مستويات صارخة لازدواجية المعايير، ليس من قبل الولايات المتحدة والقوى الغربية وحدها، وإنما شملت أيضاً النظام البعثي في العراق وأطراف عربية مساندة له وأطراف معارضة للغزو وشاركت في التحالف الدولي الذي نشأ لتحرير الكويت. لكن حدث بعد الحرب مباشرة وفي سياق الاهتمام الأمريكي بالتعامل مع المشكلات الجذرية في المنطقة والتي تجعلها معرضة لاندلاع العنف المسلح بشكل متكرر، تقرر السعي لإيجاد حل للمشكلة الفلسطينية وفرضت واشنطن على كل الأطراف المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، وأدت عملية مدريد إلى تسوية بعض الملفات في الصراع من خلال مسارات التفاوض الثنائية وكشف عن إمكانيات واعدة للتعاون المتعدد الأطراف، لكن سرعان ما تم التراجع عن هذه الصحوة التي استمرت في عهد إدارة الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، بتأثير السياسة الواقعية والعودة مرة أخرى لسياسة المعايير المزدوجة في عهد خلفه الجمهوري جورج بوش وفي أعقاب هجمات سبتمبر 2001.

إحدى المزايا الأساسية لحرب غزة والحرب على حزب الله في لبنان، على كل ما في الحربين من مآس إنسانية غير مسبوقة أنهما كشفا للعالم مسألة ازدواجية المعايير، لكن ليس بشكل كامل مثلما فعلت انتفاضة 1987 التي اعتمدت أساليب أكثر سلمية. وعلى الرغم من أن الإسراف الإسرائيلي في استخدام القوة المفرطة في حرب غزة وضد حزب الله واليمن، لا يمكن مقارنته بأي وجه من وجوه المقارنة بالقوة التي استخدمتها في عام 1987، إلا أن الطابع السلمي للانتفاضة لم يوفر لإسرائيل أي مبرر لإقناع العالم بأنه تواجه خطراً وجودياً. وعلى الرغم من ذلك تحررت قطاعات كبيرة من الرأي العام العالمي من تأثير الداعية الإسرائيلية التي تبرر وتدافع عن استهداف المدنيين وتدمير البنى التحتية في غزة ولبنان واليمن، إلا أن تزايد المعارضة الشعبية للعدوان الإسرائيلي لم يصل بعد إلى المستوى المؤثر على قرارات الحكومات الغربية الداعمة لإسرائيل. وأحد الأسباب لذلك هو المواقف التي تعكس ازدواجية في المعايير لكثير من الأطراف العربية في خطابها المتعلق بحماس وحزب الله، كحركة مقاومة لإسرائيل، وموقفهما من الحركتين معاً في بعض الملفات الداخلية في مصر وفي لبنان وسوريا. ففي كثير من هذه الحالات لا تمارس ازدواجية المعايير فقط، وإنما تتعدد المعايير إن وجدت، وهي غائبة تماما وغير موجودة في بعض الحالات.
--------------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

صباحيات | مصر والمشاريع الإمبراطورية الثلاث